فى ظل دولة القانون...هل توجد مرجعية غير ارادة الشعب؟/ذ.محمد يحي الطبيب
الأحد, 28 يوليو 2024 21:11

المقال التالي كتبته بتاريخ : 26 أكتوبر 1992 (جريدة الجمهورية)
في ظل دولة القانون.. هل توجد مرجعية غير إرادة الشعب.

 عندما يثور خلاف حول موضوع ما كقانون يراد تطبيقه أو استبعاده أو فكرة أو مشروع نسعى إلى تحقيقه أو حمايته أو منعه والقضاء عليه، تكون هناك المعايير الجاهزة والمفترضة باعتبارها الخلفية والغاية الحقيقية من الكون والقانون والاقتصاد.. إلخ. انها المرجعيات النموذجية التي تبرر غيرها مما هو قائم أو مرغوب في قيامه لكنها وإن اتفقت من حيث كونها روحا عامة أو نموذجا يحتذى به فإنها مع ذلك تبقى خاضعة للخلاف الذي يعود إلى المصالح والمعتقدات والمكونات الاجتماعية والثقافية للأفراد والجماعات وبحكم القواعد الديمقراطية التي تمنع الإقصاء وفرض النماذج الفردية الوحيدة تبقى هذه الخلفيات وتلك النماذج والأطروحات في تعايش وتصارع.
وبالنسبة إلى واقع كالذي تعيشه موريتانيا وما تجلى لحد الساعة من حلقات تجاربه حيث الإسلام الصافي في عقيدته والسليم في لغته وحيث الملابسات الإدارية التي تخلفت عن الاستعمار والبنيات التي تلته وحيث الطموح والجد والعادات والقيم وحيث دولة القانون التي أسسنا قواعدها منذ فترة وجيزة كل هذا إذا ما قررن بالفترة الزمنية الحالية ينتج عنه ضرورة قصوى لإلقاء نظرة على المرجعيات لأن اليمقراطية والشفافية لا تترك المجال للغموض وحمل الشعارات النظرية والانهماك في السلوك العملي المحض أمور لا تعفي أصحابها من التعريف بمرجعياتهم بل لابد لنا نحن كمتلقين وبالضرورة مشاكرين بحكم قواعد الديمقراطية من مناقشتهم في كل ذلك، فيما يدعون وما يرفضون، ان المرجعيات العامة تنحو دائما إلى الوراء لتقارن ما هو قائم وما يجب ان يقوم بما كان قائما أو ما كان ممكن القيام تسعى إلى فرض النموذج الغائب على الحاضر والمستقبل وهذا أمر مشروع وسنة من سنن الله في خلقه حيث الاقتداء والاستفادة من الماضي بغية إنجاز الحاضر والمستقبل، وأيا كانت المرجعيات أو الخلفيات فإنها لن تخرج عن إطارات الدين والاجتماع والقانون فالإطار الديني كمرجع قائم على الدعوة إلى تطبيق الشريعة تغلب عليه النظرة الملغية الجاعلة من عهد الخلفاء الراشدين النموذج الذي على المسلمين اليوم وغدا ان يعملوا على جعله مرشدا للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ولكن الإشكالية التاريخية والمنهجية تتمثل في تطبيق الحكم الذي سنطلقه على الدولة الإسلامية اللاحقة بدء من دولة الأمويين حتى الدول الإسلامية المعاصرة.

إننا أمام أمرين فإما أن نعتبر ان الإسلام طبق فقط في العهد الراشدي وان ما بعده لا يعد حكما إسلاميا قابلا للاقتداء به والاستفادة منه واما ان نسلم بأن جميع الأحكام كانت إسلامية بما فيها العهد الراشدي الذي يبقى هو أفضلها.
والافتراض الأول خطير على الإسلام والمسلمين لأنه يستبعد جل تاريخهم وأغلبيته إنجازاتهم وإن كان يبرئ الإسلام من أخطاء العباد وفساد البلاد، في حين أن الافتراض الثاني القابل للمفاضلة بين فترة وأخرى والمتضمن للإنجازات والأخطاء، يبقى أكثر انسجاما مع واقع شروط تطورها، غير أن المسألة لا تنحصر فقط في المقاربات والأحكام التاريخية بل هي حميمة الصلة بالواقع المعاصر وبالذات واقعنا نحن الذي يتميز بالإسلام الغالب والشامل في التاريخ والحاضر من دون ان يتلازم ذلك مع دولة إسلامية كنموذج للاقتداء، وظهرت فجأة الدولة المستقلة حديثا والتي لم تدعى لنفسها الإسم أبدا قبل دستور الثاني عشر يوليو 1991 باستثناء مسألة الاسم، ذلك ان الدعوات المرجعية الحالية قد تكون سطحية ومتهمة بالشعاراتية السياسية إذا هي لم تحدد النموذج الذي ينبغي الرجوع إليه ومن واقع التجارب الاجتماعية وربما يقول قائل ان الكتاب والسنة وإجماع الأئمة وقياس العلماء السابقين كلها مصادر تكفينا من مشقة البحث عن نموذج نظري أو عملي، غير اننا إذا علمنا ان كل دولة وكل حاكم وكل قبيلة وكل مذهب في السابق والحاضر تعتبر أن ما قامت به وما تعتقد فيه لهو الإسلام بعينه وان ما خالفها لهو خروج أو انحراف إن لم يصل درجة الفسق والكفر، فإننا سنعرف مدى ما يواجه أي محاولة لفرض النموذج الواحد..
إن المسألة قد يكون فهمها أسهل إذا ما حاولنا المقارنة بينها والمرجعية الاجتماعية القائمة على التطور الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للامم والشعوب وهذا لا يناقض الانتماء الديني والإسلامي لشعب ما، أبدا إنه كامن فيه ويتغذى منه لكن ستكون وكما كانت لكل تربة مكوناتها والتي تؤثر في فهمها للإسلام ومن ثم تطبيقها وهو أمر لا يمس وحدة الإسلام واحترام مبادئه بل هو شرط لاتساعه ووحدته. إن المرجعية الاجتماعية لكل شعب تتضمن بالضرورة معتقدات ذلك الشعب ومكوناته الثقافية وأسبابه المعيشية. وشعبنا المسلم قاطبة والمحافظ على ثقافته العربية في إطار انتمائه لقارته الإفريقية وما تزخر به من مكونات للإثراء، سيكون من نافلة القول ان مرجعيته الاجتماعية هي إسلامية من حيث الروح والمصدر. إلا أن خصوصياته التي من ضمنها بئته الصحراوية وما نتج عنها من فهم فردي وحر للإسلام تجعل المرونة التي يتعامل بها مع تطبيقات الحياة داخلة في إطار فهمه للإسلام الذي قد يختلف مع غيره..
وبما أن المرجعية النصية لا تكفى لضرورة الاتفاق على معنى موحد لتفسيرها حسب شروط الزمان والمكان وإن المرجعية الاجتماعية لا تزيد عن كونها قيما عامة وخلفيات للتفكير والسلوك، فإنه كان لابد من محكم يرجع إليه انتقاء من النص وصدى للحياة لابد من تفسير موحد بحكم وظيفة الدولة الواحدة والشاملة، إنه القانون أو القواعد التي حبذا المجتمع جعلها حكما بين افراده وعلى جميعه وتمتاز بأنها لا تحمل الخلاف إلا في إطارها العام وتشمل جميع أوجه الحياة. إلا أن هذه القواعد ستكون جودتها وقابليتها في الاستمرار مرهونة بمدى انسجامها مع المرجعيات الدينية والاجتماعية. إن القانون إما أن يكون نابعا من المجتمع ومستجيبا لتطلعات أفراده واضعا في حسبانه أهم أهدافه ومصالحه وإما أن يكون مفروضا من جهة أو فئة من خارج الشعب هادفا فقط إلى تحقيق مصالحها وضمان استغلالها وسيطرتها على المجتمع الذي يكون في وضعيته المغلوب على أمره..
في الحالة الأولى يكون المشروع قد صادف الصواب وهو لا يكون كذلك إلا إذا كان فعلا مشرعا وطنيا وهنا يتسع نطاق المشرع إلى كل من له علاقة بالقانون من مصوتين ومقترحين ومصدرين ومنفذين. أما الحالة الثانية فإننا نكون أمام قانون جائر لأنه يخالف رأي أغلبية الشعب ولأنه يخدم مصالح ضيقة أو فردية أو أجنبية. هكذا مثل القوانين التي أصدرها الاستعمار الفرنسي ليحكم بها بلادنا والقوانين التي شرعت فرنسة هذا الشعب المسلم العربي ـ الإفريقي والتي رغم صدور دستور يوليو 91 ما زالت خارج مبادئه وتتعامل بالفرنسية كما لو كانت في عهد كبلاني أو حكومة إدارة ما وراء البحار..
إن قيام دولة القانون يعني من جملة ما يعنيه أن السيادة للشعب بمعنى أنه صاحب السلطة والسلطة تعني القانون ومعنى ذلك ان المرجعية القانونية في النهاية تعنى المرجعية الشعبية ولا تعدو المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية عن كونها وكلاء عن الشعب كل في إطار اختصاصها وآلية الديمقراطية القائمة على الانتخابات والتجديد والمراقبة والمحاسبة والتدرج في الأحكام وتعدد الهيآت تمنع أي سلطة من الانحراف الجوهري عن إرادة الشعب التي يمارسها ويفرضها عن طريق البطاقة الانتخابية، هذه البطاقة التي تلعب دورا حاسما في المجتمع الديمقراطي ولا أدري ما هو الحكم الذي يمكن أن يطلقه أحدنا على قانون صوتت عليه أغلبية الشعب غير أنه من مؤيديه أو معارضيه اما غير ذلك فإنه لا مجال له في الديمقراطية، لا مجال لأي مرجعية لا تضع في حسبانها إرادة الشعب التي لا يعتد بها من خارج صناديق الاقتراع. وكون الشعب الموريتاني مسلم بكاملة فإنه من غير المتصور موافقة أغلبيته على ما يخالف معتقداته الإسلامية، نعم قد يخالف مذهبا أو حزبا أو فردا أو دولة أخرى إنما ان يخالف الإسلام فذاك شبه مستحيل وهنا يكمن لب الإشكالية : إرادة الشعب أم إرادة الأفراد؟ أما إرادة الله ودينه فإنه لا يمكن لأحد ومهما يكن أن يدعي اكتمال واختصاص فهمه لها..
ذ/ محمد يحي ولد الطيب

 

رتل القرآن الكريم

إعلان

إعلان

فيديو

الجريدة

إعلان