التصوف والإصلاح السلمي عند الشناقطة/الدكتور الشيخ ولد الزين ولد الامام
الثلاثاء, 02 يونيو 2015 16:10

في البدء أود أن أقدم ملاحظة معيارية مؤداها إعادة تعريف  وتحديد لمصطلح التصوف بحيث يكون مصطلح التصوف يعني حالة فكرية وشعورية يكون بها الفرد أو الجماعة أكثر انسجاما مع ذاتها  ومحيطها  ومع الكون  والخالق .. إن التصوف بهذا المفهوم حالة  فرد أو أمة  تتقبل الآخر ولا تحتكر الحق  تشعر بالغاية من الوجود  وتصلي في محراب الخالق بتواضع  وخوف ووجل من سوء الخواتم والمقادير ..     من وجهة نظري فان هذا التوصيف ينطبق علي سلف هذه البلاد  الشنقيطية عموما سواء كانوا متصوفة مصنفين أو كانوا متصوفة غير مصنفين علي حد تعبير العلامة حمدا ولد التاه حفظه الله ..   أظن أن ثلاثية ابن عاشر كانت تعتبر المرتكز الأساس للمرجعية في هذه البلاد   في عقد الأشعري وفقه مالك   وفي طريقة الجنيد السالك

     ومن هنا فإنه إذا تم التوافق علي هذه المسلمة نكون بذاك كلنا قادريون كنتيون أو تيجانيون أو شاذليون فلا عبرة بالأسماء إذا اتحدت  الشخوص والمسميات .. بعد  هذه الملاحظة الجوهرية أود في سياقنا هذا نقض مسلمتين : - أولاهما قولهم أعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال هذه مقولة شائعة غير أنها لا تقوي عند  الفحص والتدقيق ذلك لان الحق كمفهوم   لا يوجد خارجا  عن معتقده  وعلاقته بصدق قائله غير قابلة للتجزئة أو الفصل .. ألا يلعب الفهم والتأويل دورا محوريا في ماهية الحق ؟   ولقد فطن لهذا عالم المقاصد أبو اسحق الشاطبي عندما قرر أن المفتي قدوة بفعله كما هو قدوة بقوله مثله في ذلك مثل صاحب الشريعة .. نريد أن نخلص من هذا إلي أهمية اتخاذ ما كان عليه السلف من أولياء وصالحين معيارا  للفهم الصائب والسليم  للإسلام .. وهكذا وجب التعرف علي مرجعية صاحبنا الشيخ سيد أجمد البكاى بودمعة واتخاذها منهجا   وسبيلا من أجل صلاح الدنيا والآخرة ..   لهذا فان الإسلام الوسطي في نظرنا هو ما  تمت فيه المزاوجة بين طريقة الجنيد وفقه إمام دار الهجرة مع عقيدة السنة  والجماعة التي كان رمزها هو  أبو الحسن الاشعري ..   إن الفكر الوسطي هو ذاك الذي لا يفارق السلف في معتقده  ولا يفارق الفقهاء في معتمده  ذلك لان العقائد رأس ماله  والأحكام أساس أعماله    والعمل بغير ذينك المرتكزين فيه غرر وجنف وقصور .. - أما المسلمة الثانية  فهي قولة شاعر بني العباس  وإنما أردنا بذلك بيان كون صاحبنا الشيخ سيد أحمد البكاي  بودمعة كان خير نقض لتلك المسلمة .. لقد حقق  بمنهجه ما تعجز عنه السيوف وهو في ذلك إنما يسير وفق منهج الرسل والأنبياء .. لقد قال أبو تمام يوما : السيف أصدق إنباء من الكتب          في حده الحد بين الجد واللعب بيض الصفائح لا سود الصحائف     في متونهن جلاء الشك والريب     لئن كانت  الشواهد  في ماضي البشرية وواقعها   لا تنعدم للتأكيد علي صدقية فرضية  أبي تمام   إلا أن تاريخ البشرية كذلك بل ومنهج الأخيار من الرسل  والأنبياء والمصلحين فيه من الشواهد  ما ينقضها  بل ويجعل الإصلاح السلمي و خيار الموادعة  حتى مع الأعداء  هو الخيار الصحيح  بل هو أشد إيلاما لهم من حد السيف  ولعق السم الزعاف .. بل إن هذا المنهج كان دائما أكثر جدوائية في تحقيق أهداف أصحابه في أحيان كثيرة .. ألا يتذكر البشر المنهج الهابلي نسبة الي هابيل   ويعترفون  بكونه أقرب المناهج  إلي التقوى  والاستعلاء علي الشيطان ؟ ولماذا زكي القرآن الكريم هذا المنهج لو لم يكن  يعتبره أرفع السلوكيات المحتملة في تعامل البشر فيما بينهم وهم في دار الابتلاء   ؟ (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) [المائدة : 28 ، 29 أي الرجلين بقي له ذكر في الآخرين وأي الرجلين باء بإثمه وباء بإثم كل من يقترف خطيئة مثله إلي يوم الدين  ..؟ لماذا كان منهج السلم والصفح هو النموذج الذي سلكه أولو العزم من الرسل ؟ فهذا إبراهيم  عليه السلام  أجمع القوم علي رميه في النار ضحوة وأمام الملإ ثم جاءت خيبتهم بتدخل  من رب  العالمين ((67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70 [الأنبياء : 66 - 70] ما ذا تظنون الرجل فاعل بالقوم ؟ ألم يكن بإمكانه أن يقود تمردا مسلحا  لمقاتلة النمرود وقومه المجرمين ؟  لا تسعفنا الوقائع التاريخية بشيئ من ذلك . إنما كانت ردة فعله موزونة بميزان  الشرع والدين  .. لقد هجر القوم وما يعبدون وكان فعله ذلك  أشد عليهم من كل قتال فتهاوت أركان ملك النمرود   والي الابد .. إن النموذج السلمي كان وحده كفيلا بصد الناس عن تلك الآلهة الزائفة ومن ثم تهاوي أركان الكفر  وبقي إبراهيم ونهج إبراهيم مباركا في العالمين .. في نفس السياق سارت دعوة لوط كلمة طيبة وهجر بعد استنفاد سبل المصالحة ((167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) [الشعراء : 161 - 170] وهذا  تماما  هو المنهج الذي سار عليه صالح  مع ثمود الذين عقروا الناقة   أمام عينيه ؟ ألم  يكن بإمكانه أن يدافع عن ناقته لو أن تلك مهمته ؟؟ كان بإمكانه أن يقتل واحدا أو اثنين من الجماعة الذين أرادوا الكيد بناقته لو أن تلك مهمته ؟   لقد عقروا الناقة  علي مرآي ومسمع منه فما ذا كان الجزاء ( (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) [هود : 63 - 66] إن مهمة  الأنبياء والمصلحين البيان  والبيان وحده ليحيا من حيي علي بينة ويموت من يموت علي بينة  .. وكان منج كليم الله موسي  هو هذا المنهج عينه  .. كانت  دعوة موسي سلمية الي أبعد الحدود وسيلتها الموعظة الحسنة والجدال بالحسنى اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) [طه : 43 - 46]   كانت الرسل تسير علي خط واحد .. مسار واحدة   .. وهذا  عيسي عليه السلام نموذج الصفح والموادعة  من ضربك علي خدك الأيمن فأعطه خدك الأيسر  . ومع ذلك أوذي وأوذي بل هموا بقتله بل أشاعوا قتله .. وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) [النساء : 157 ، 158] كان خاتم النبيين  وإمام المرسلين محمد صلي الله عليه وسلم النموذج الاعلي في كل ذلك  تتذكرون بلا شك  قصته مع أهل الطائف ودعاءه الطاهر عندما ردوه خائبا وأرسلوا عليه صبيانهم يرشقونه بالحجارة حتي أدمي عقبه الشريف حيث كان يقول : ( اللهم إليك أشكو ضَعْف قُوَّتِى، وقلة حيلتى، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تَكِلُنى ؟ إلى بعيد يَتَجَهَّمُنِى ؟ أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سَخَطُك، لك العُتْبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك ) .   ثم ما ذا كان جوابه لجبريل عليه السلام عندما جاء يخيره في الانتقام ؟ لو خير  غيره لكانت مدينة الطائف أثرا بعد عين ...؟ قال /(فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال : يا محمد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين قال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا ) . وبعد هذا كله  ألا ترون هذا المنهج السلمي أصيل في الإسلام ؟ لقد سار العلامة المجدد الشيخ سيد أحمد البكاي  تبعا لهذا المنهج فكانت دعوته الإصلاحية سلمية إلي أبعد الحدود .. لقد كانت مدينة ولاته في ذلك العهد شبيهة الي حد بعيد  بانواكشوط والرباط وتونس  وبغداد والقاهرة  في هذه الايام, مدينة ترتفع فيها المآذن  وتقام فيها الصلوات ومع ذلك  توجد فيها المنكرات  فكيف كانت دعوته لإصلاح البلدة وكيف نجحت مهمته الإصلاحية ؟ إنها مدن بشرية ليست مدن ملائكة   فيها خير كثير وفيها شر كثير .. فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا كيف يقلب المصلحون المعادلة فيجعلون الخير يغلب ويكثر ..  هذه مهمتهم  .. كانت ولاتة   تماما مثل الخمر فيها خير كثيرو فيها شرا كثيرا فكيف استطاع هذا العلامة المجدد أن يقلب المعادلة فتصير ولاتة بعد دهر عاصمة  وعنوانا للحجاب والحياء في أمصار الصحراء

 

رتل القرآن الكريم

إعلان

إعلان

فيديو

الجريدة

إعلان