مقاربات حول الإسلام و الديمقراطية/ محمد جميل منصور
الأربعاء, 05 فبراير 2014 09:05

في مناسبة سابقة قررت أن أكتب هذا المقال فشرعت فيه ثم توقفت و انشغلت ، و لكن الموضوع عاد يطرق على الباب فبعض الإسلاميين – و إن من خلفيات مختلفة – يصر على أن الإسلام لا يقبل الديمقراطية و لا يستطيع التعايش معها و طائفة من السلفيين توزع أحكام الحرمة و المنع على الانتخابات و الأحزاب و سائر متعلقات العملية الديمقراطية ، و يخلط  البعض على نحو لا تسعفه العلمية بين الديمقراطية و العلمانية ، كما أن بعض العلمانيين مازال يصر على أن المرجعية الدينية – و هي في هذه الحالة إسلامية – تناقض المفهوم الديمقراطي و لا تلتقي معه ، و كل إسلامي يدعي الديمقراطية أو يقبلها عاقد العزم على خلاف ذلك في الحال أو في المآل و أن المواقف السياسية بالقبول لا تعززها رؤية فكرية بالاستيعاب .... ثم جاءت أحداث مصر و انقلاب السيسي على التجربة الديمقراطية و هو ما ولد شعورا بأن الممارسة الديمقراطية وهم و ليس للإسلاميين فيها مكان فاستعجل البعض فاتهم الديمقراطية بالقصور و طريقها بالفاشل لأن عسكريا متعطشا للسلطة انقلب في مصر مستهدفا الديمقراطية و الكاسبين فيها معا فالخصومة مع الانقلاب و الاستبداد لا مع الديمقراطية و الانتخاب ، و هكذا قررت أن أكمل المقال و قد أسهم بعض المعلقين على تويتر في هذا 

القرار بسؤالهم المتكرر و المستفز أحيانا عن المقال الذي كنت قد وعدت به سابقا .

و لعلي مطالب أن أعتمد تعريفا للديمقراطية به التزم في هذه المقاربة و على ضوئه يحاسبني القراء و المهتمون و يساعدني د. صالح حسن سميع في كتابه القيم " أزمة الحرية السياسية في الوطن العربي : دراسة علمية موثقة " بضبط دلالة هذا المصطلح حين يقول " فالديمقراطية في أصلها اللغوي و سياقها التاريخي لا تحمل إلا مفهوما سياسيا واضحا و محددا و هو : حكم الشعب بالشعب و قد ظهر هذا المصطلح لأول مرة في التاريخ في كتاب ( تاريخ حرب البيلو بونيز ) من تأليف المؤرخ اليوناني توسيد يدس – 460 – 400 – ق..م " أزمة الحرية السياسية في الوطن العربي ص/ 47   

و مع ذلك لا يفوته و قد وثق التعريفات المشهورة و المتداولة أن يشير إلى حجم ما تعرض له مصطلح الديمقراطية من توظيف حتى من أبعد الناس عن مقتضياتها    " إن من الظواهر التي لا تخطئها العين في تاريخ الفكر السياسي أنه لم تستغل كلمة في تاريخه بقدر ما استغلت كلمة الديمقراطية و لعله لم يهدر معنى كلمة أو يشوه بقدر ما حدث لها "  نفس المرجع ص/ 48

و حتى لا أضيق على نفسي بإضافات المدرسة الليبرالية و سياق تطور الديمقراطية في ظلها و ما صاحبها من جراء ذلك مما لا يستطيع البعض تصور فصله عنها أخلص إلى القول بأن جوهر الديمقراطية أن يكون الحكم صادرا عن الشعب ، فمصدر الشرعية الوحيد هو الناس و اختيارهم و وسيلة العزل الوحيدة هي الناس  و انتخابهم و ملحقات ذلك و مقتضياته المعروفة فصلا للسلطات و تشريعا للتداول السلمي على السلطة و منحا للحقوق لكافة مكونات الشعب و قواه .

أما مادة الحكم و برنامجه ، أما القوانين و ما تحويه فهذا يعود إلى اختيار أغلبية الناس و لذلك نجد الديمقراطية تفضي إلى سلط و حكومات تختلف مرجعياتها       و برامجها و أنماط إدارة الحكم عندها و لنا أن ندرك أن الحكم في فرنسا و الهند   و تركيا و البرازيل و السنغال و غزة إفراز للديمقراطية و لن نجد صعوبة في الحكم على اختلاف هذه الحالات فكريا و سياسيا و اجتماعيا فلا داعي لتحميل الديمقراطية فوق ما تتحمل .

لست من البساطة بحيث يغيب عني أن الديمقراطية تطورت و نضجت في سياق الحضارة الغربية قديمها و حديثها و لذلك ثمنه من مصاحبات ثقافية و اجتماعية تنتمي لفضاء القوم و تترجم الفلسفة اللادينية و أحيانا في صورها الأشد قتامة و لكني مع ذلك أدرك أن الفصل ممكن و أن اتساع المجال في التعاطي مع الديمقراطية و شموله لأمم و شعوب تعددت دياناتها و تباينت ثقافاتها أعطاها بعدا عالميا و حررها أو كاد من كثير مما يصر متطرفو العلمانيين و متشددو الإسلاميين على لصقه بها و جعله ملازما لها و في كتابه " الأمة هي الأصل " نفى الدكتور أحمد الريسوني هذا التلازم الذي يصر عليه هؤلاء : " فهذه الأمور التي نعتقد أنها من لوازم الديمقراطية ليست من لوازمها في الحقيقة , فيمكن إذن أن تنتقل جملة من المفاهيم و من الأفكار و من المبادئ الديمقراطية من دون أن ينتقل معها كلما لازمها في دولة معينة أو في حقبة تاريخية معينة " الأمة هي الأصل ص /  45

و لأننا في هذا الحديث نود تصحيح العلاقة بين الإسلام و الديمقراطية – من وجهة نظر معينة طبعا – فإن حديثا في الرؤية السياسية في الإسلام يصبح لازما و به نستطيع التأسيس لهذه العلاقة الإيجابية مع الديمقراطية استيعابا و استنباتا و هي عادة الإسلام و حضارته مع النبتات الطيبة و الحكمة المفيدة أيا كان مصدرها لأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها .

ليس من المجازفة القول إن الإسلام آثر الإجمال على التفصيل في الشأن السياسي  و أن البناء السياسي في الإسلام تحددت قواعده و موجهاته و لم تتحدد طرائقه      و إجراءاته و أن للزمان و إضافاته و المكان و خصوصياته و الفكر و تطوراته دور في الاجتهاد السياسي في الإسلام .

يقوم البناء السياسي الإسلامي على قواعد من أهمها و مما له صلة واضحة بموضوعنا : الشورى ، و هو مصطلح تعرض للكثير حتى تصوره البعض سلوكا اختياريا يمكن للحاكم أن يمارسه و يحق له تركه إن شاء و أن نتائجه للإعلام       و على سبيل الاسترشاد و ليست للأخذ و لا هي على سبيل الإلزام ... و الشورى مصطلح له أصل لغوي أوضحه ابن منظور في لسان العرب قائلا : " فالشورى    و المشاورة و المشورة : مصادر للفعل شاور فتقول : شار العسل يشوره شورا   و شيارا و شيارة و مشارا و مشارة : أي استخرجه من الوقبة و اجتباه ، كما أن الشورة و الشارة هي – غالبا – الهيئة و المظهر الحسن " لسان العرب ج 4 ص/ 2356 – 2357   و الشورى صفة لأمة المسلمين " و الذين استجابوا لربهم ، و أقاموا الصلاة و أمرهم شورى بينهم و مما رزقناهم ينفقون ، و الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون " الشورى 38 – 39

و قد نقل الإمام القرطبي تعليقا على هذه الآية : " قال الحسن : ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم .. و قال ابن العربي : الشورى ألفة للجماعة و مسبار للعقول و سبب إلى الصواب و ما تشاور قوم إلا هدوا " الجامع لأحكام القرآن /القرطبي 16 / 25  

و زاد في الإيضاح رابطا هذه الشورى في أول أمرها بالموضوع السياسي :       " و أول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم ينص عليها حتى كان فيها بين أبي بكر و الأنصار ما سبق بيانه .. و تشاوروا بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحروب , حتى شاور عمر الهرمزان حين وفد عليه مسلما في المغازي " نفس المرجع 16 / 25 – 26  

و جاء القرآن بالأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بممارسة الشورى و بالتالي هو أمر لخلفائه و أتباعه و السائرين على نهجه  : " فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم و استغفر لهم و شاورهم في الأمر ، فإذا عزمت فتوكل على الله ، إن الله يحب المتوكلين " آل عمران 159 قال القرطبي : " قال ابن عطية : و الشورى من قواعد الشريعة و عزائم الأحكام , من لا يستشير أهل العلم و الدين فعزله واجب ، هذا ما لا خلاف فيه " القرطبي 4 / 161   و أورد الحافظ ابن كثير ما تضمن ردا على من يفسر العزم على غير الوجه الشوري المطلوب قال : " و روى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن العزم فقال : مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم " تفسير ابن كثير 2 / 143   

و قد أحسن الدكتور حسن الترابي بحسه اللغوي الرفيع حين أوضح صيغة الترابط في الآية :    " و لم تقل الآية أو شاورهم في الأمر و إذا عزمت فتوكل على الله لتخير في أن يأخذ بالشورى أو يعزم في الأمر وحده بل كان رابط الجملتين الفاء التعقيبية ليكون العزم فالتوكل عقب الشورى و بناء عليها " الشورى و الديمقراطية : إشكالات المصطلح و المفهوم ص / 18

و نقل الإمام ابن القيم تأصيلا داعما لهذا التوجه حين قال : " ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله : الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن و لم تمض فيه سنة قال صلى الله عليه و سلم : اجمعوا العالمين أو قال العابدين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم و لا تقضوا فيه برأي واحد " إعلام الموقعين 1 / 65   أما الشهيد سيد قطب فيقطع معلقا على هذه الآية : " و بهذا النص الجازم      ( و شاورهم في الأمر ) يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم حتى و محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم هو الذي يتولاه ، و هو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكا في أن الشورى مبدأ أساسي لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه أما شكل الشورى و الوسيلة التي تتحقق بها فهذه أمور قابلة للتحوير و التطوير وفق أوضاع الأمة و ملابسات حياتها و كل شكل و كل وسيلة تتم بها حقيقة الشورى لا مظهرها فهي من الإسلام " في ظلال القرآن 1/

و لمصطلح الشورى حدود و تعريفات وفق بعض المعاصرين في تصورها يقول الدكتور عبد الحميد الأنصاري إن الشورى هي " استطلاع رأي الأمة أو من ينوب عنها في الأمور العامة المتعلقة بها " و حدد عناصر التعريف في " حق الأمة في أخذ رأيها في اختيار الحاكم الذي ترتضيه ، و أخذ رأيها في كل الأمور الهامة ،    و في حقها في أن تحكم نفسها وفقا لإرادتها ، و من أجل مصلحتها و أخيرا حقها في الرقابة و المعارضة و النقد و التقويم " الشورى و أثرها في الديمقراطية ص/ 4

و يعلق د. حسن صالح سميع على بعض التعريفات المحدودة و المضيقة لمفهوم الشورى : " و المتأمل لتلك التعريفات يجد أنها قيلت و في ذهن قائلها تلك الصورة المبسطة لعملية الشورى في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم حيث كانت الحياة السياسية و الدستورية تتسم بالبساطة "   ثم يعقب شارحا جوهر المفهوم :    " إن جوهر مبدإ الشورى يعني : حق الأمة في إدارة شؤونها بنفسها إلا أن تطبيقات المبدإ تختلف في صورها و في وسائلها باختلاف الزمان و المكان " مرجع سابق ص/ 52

و لعل الشيخ راشد الغنوشي و هو الذي أعطى وقتا للمسألة السياسية تأصيلا        و تنظيرا و جمع فيها بين التفكير و الممارسة يساعد في ضبط المعنى و الدلالة حين يقول : " إن الشورى في الإسلام ليست حكما فرعيا من أحكام الدين يستدل عليه بآية أو آيتين و بعض الأحاديث و الوقائع ، و إنما هي أصل من أصول الدين       و مقتضى من مقتضيات الاستخلاف أي أيلولة السلطة الربانية إلى العباد الذين أعطوا الميثاق لله أن يعبدوه " الحريات العامة في الدولة الإسلامية ص/ 109

و من الأدلة المهمة التي ذكرها البعض على الشورى و على إخراجها من المقاربة الفردية إلى المقاربة الجماعية آية الاستخلاف " وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ، يعبدونني لا يشركون بي شيئا " النور 55     و قد أورد القرآن استبداد فرعون في سياق الذم " ما أريكم إلا ما أرى و ما أهديكم إلا سبيل الرشاد " و شورية ملكة سبأ في السياق الإيجابي " أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون " 

و على المستوى التطبيقي كانت صيغة اختيار الحكام في التجربة النموذج تجربة الخلافة الراشدة – و هي نموذج بدلالاتها و مقاصدها و ضوابطها – لأنه تظهر في أشكال التطبيق خصوصية اللحظة و السياق مترجمة لهذه الشورى ، ففي السقيفة اجتمع رؤوس المهاجرين و الأنصار لينتهي تداولهم و نقاشهم إلى اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه و ليبايعه الناس في المسجد ، و في مرض وفاته دعا      أبو بكر الناس إلى الاجتماع ليؤكد لهم ضرورة اختيار خليفة له قائلا " فإن شئتم اجتهدت لكم رأيي " و كان الجواب " أنت خيرنا و أعلمنا فاختر لنا " فأوصى لعمر رضي الله عنه و بايع الناس ، يعلق شيخ الإسلام  ابن تيمية قائلا : " و كذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر إنما صار إماما لما بايعوه و أطاعوه ، و لو قدر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر و لم يبايعوه لم يصر إماما " منهاج السنة 1 / 142    

  و في بيعة عثمان رضي الله عنه اختار عمر الستة و وضع لهم ضوابط و إجراءات ثم أشرف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه على شورى عامة فخرج " يتلقى الناس في أثقاب المدينة متلثما لا يعرفه أحد ، فما ترك أحدا من المهاجرين و الأنصار و غيرهم من ضعفاء الناس   و رعاعهم إلا و سألهم و استشارهم " و في رواية أخرى " حتى خلص إلى النساء المخدرات في الحجاب " و كانت النتيجة أن اختار الناس عثمان رضي الله عنه و بايعوه و كان تعليق الخليفة عمر كما ورد في الصحيح كافيا لضبط مصدر الشرعية  " بلغني أن قائلا منكم يقول : و الله لو مات عمر لبايعت فلانا فلا يفرق امرؤ أن يقول : إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت ألا و إنها قد كانت كذلك و لكن وقى الله شرها ، و ليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر ، من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو و الذي بايعه تغرة أن يقتلا " فتح الباري 12 / 144 – 145   أما بيعة الإمام علي رضي الله عنه عندما اجتمع إليه الناس في بيته و أرادوا بيعته قال : إن بيعتي لا تكون خفية و لا تكون إلا في المسجد و مشهور عن الأمير العادل عمر بن عبد العزيز أنه بعد عهد سليمان له بالخلافة صعد المنبر و قال : " أيها الناس إني لست بمبتدع و لكني متبع و إن من حولكم من الأمصار و المدن إن أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم ، و إن هم أبوا فلست لكم بوال " البداية و النهاية 9 / 182 – 183  

و واضح أن للشورى في التصور الإسلامي مجالين مجال الاختيار و مجال الممارسة ، فالشورى قبل أن تكون أسلوبا مطلوبا من الحاكم هي قاعدة اختياره     و نيله الشرعية و لا عبرة بالضرورات و الممارسات التي انتهى البعض إلى اعتبارها مصدرا للشرعية و ما هي كذلك سواء في ذلك ولاية العهد أو شوكة التغلب .

و إذا حررت الشورى من تضييق المجال و توجيه الدلالة الذي عانت منه في مراحل الانحراف السياسي في تاريخ الأمة ، و حررت الديمقراطية مما علق بها مما ينتسب لثقافة و ممارسة من تطورت عندهم مما لا يناسب خصوصيتنا الحضارية ، يصبح اللقاء ممكنا بل و مطلوبا .

و هنا يلزمنا التوقف عند جملة إشكالات يثيرها البعض و يصر على أنها كافية للقول بأن الإسلام لا يقبل الديمقراطية أو أن الديمقراطية لا تناسب المسلمين

يجمل معظم الرافضين للديمقراطية ، المعتبرين أنها تناقض الإسلام و الذين يرون في تبني الخيار الديمقراطي " تخليا عن الدين و اعتناقا لمذهب آخر " و أن الديمقراطية " لا تغرس الوازع الإيماني و لا تؤلف بين القلوب و لا تدل الناس على الله و لا تقيم العدل الحق و لا تطعم الناس من جوع و لا تؤمنهم من خوف "        و انتهى بعضهم ( حافظ صالح ) إلى القول بتحريم مصطلحي الحرية و الديمقراطية ، يجمل معظم هؤلاء مظاهر الاختلاف أو التناقض بين الإسلام و الديمقراطية في الخلاصات التالية : n    مصدر التشريع في الديمقراطية الناس و الشعب ، و مصدر التشريع في الإسلام الوحي " إن الحكم إلا لله " و تعتبر الديمقراطية الشعب حكما وحيدا يرجع إليه بينما الإسلام يقرر " فردوه إلى الله و الرسول "

n    تبيح الديمقراطية حرية الدين و الاعتقاد و تجيز الردة ، و هذا خلاف الإسلام الذي يقتل المرتد و يجرم الرجوع عن الإسلام ، كما تتيح الديمقراطية حرية التعبير مطلقا ، و فيالإسلام تعبير جائز و تعبير محرم ، و الحرية الشخصية بلا حدود في الديمقراطية و تحدها حدود الشرع في الإسلام . n    الإسلام دين شامل للحياة و الديمقراطية تقوم على أصل فصل الدين عن الدولة .

n    الديمقراطية لا تحد حرية إنشاء الأحزاب و التجمعات مهما كانت عقيدتها أو توجهها و الإسلام يمنع التعاون على غير البر و التقوى ، و الديمقراطية تساوي بين جميع الناس و الإسلام لا يساوي بين العالم و الجاهل أو بين أهل الحل و العقد و غيرهم .

n    الديمقراطية تعتبر معيار الأكثرية لا الدليل و البرهان ، و الإسلام يريد الحق و لو قل أهله و لا يقبل إلا ما وافق الكتاب و السنة .                                                      و نحن هنا للتعاطي مع هذه الإشكالات أو لرفع اللبس تجاه هذه الشبهات يهمنا أن نوضح أن دفاعنا عن الديمقراطية و مرافعتنا عن انسجامها مع الإسلام       و قابليته لاستيعابها ينطلق من تحفظ مسبق خلاصته أن الديمقراطية حصاد فكر بشري – قد يكون أخذ من أصول متنوعة فيها الديني و فيها الوضعي – ، أجابت على إشكالات تسيير الاختلاف و بناء السلطة ، تقبل التطوير و تقبل التكيف و تقبل الإضافة ، و يستطيع الفكر السياسي و هو يتطور و تتلاقى فيه إبداعات البشرية و إسهامات مختلف الحضارات أن يتوصل لأحسن منها و أن يجود و يطور و يجدد ، و لكنها إلى الآن مثلت – خصوصا مع تحريرها من مساوئ التطبيق – منهجا من أحسن ما يدير به الناس شأنهم في السياسة و الحكم .

و الآن أسجل جملة من الأفكارمن شأنها تحقيق هدف رفع اللبس و الرد على الشبه : 1 – يخطئ من يعتبر الديمقراطية دينا أو مذهبا مقابلا للإسلام و عقائده و أحكامه ، فالإسلام إجابة على أسئلة الإنسان كلها في الوجود و الأصل            و المصير ، في الاعتقاد و الأخلاق و الحياة ، في العبادات تفصيلا و في الشأن العام قواعد و كليات و أحكاما و حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وضح لنا أنواع العقول في التعامل مع هدى الإسلام مفضلا عقل الفهم و العلم و التبليغ " مثل ما بعثني الله به من الهدى و العلم ، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ و العشب الكثير ، و كانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا و سقوا و زرعوا ، و أصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء و لا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله و نفعه ما بعثني الله به فعلم و علم ، و مثل من لم يرفع بذلك رأسا و لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به "  البخاري                                                              فلا خير في القيعان و الأجادب مفضولة ....

أما الديمقراطية فأسلوب لتنظيم الشأن السياسي في إجراءاته و آلياته ، لا تتدخل في عقائد الناس و بالتالي تتكيف معها على اختلافها و تتيح لكل مجتمع أن يعبر من خلال تياره العام و أغلبية أهله عن منهج الحكم و مضمون القوانين ... فأنت بقبولك الانتخابات الحرة و الشفافة و النزيهة وسيلة للسلطة و لتغييرها ، بقبولك للتداول السلمي على السلطة و حق الناس في رقابة حكامهم و عزلهم إن أخلوا وفق نظام معلوم ، بقبولك الفصل بين السلطات و تأدية كل منها لدورها المرسوم دستوريا ، بقبولك حرية الجميع – في حدود القانون و القواعد العامة – في التعبير و التجمع و النشاط ، تكون ديمقراطيا و لا تشترط عليك الديمقراطية لا في أصولها الأولى و لا في تجلياتها النظرية التي تكاملت لاحقا أن تخاصم الدين أو تتركه أو تتخذ منه موقفا معينا ، و القول بذلك خلط لا تسعفه الاعتبارات العلمية بين الديمقراطية و العلمانية ، فالديمقراطية إطار لا مذهب له و العلمانية مذهب و إيديولوجيا و تعميمها مصادرة مسبقة لاختيارات كثير من الناس ، فالديمقراطية تسع العلمانية و لا تتماهى معها .

2 – القول بأن الديمقراطية تعتبر الناس مصدر التشريع خلافا لمصدرية الوحي في الإسلام قول غير ناهض ، و لعلي مطالب هنا بتوضيح فكرة مهمة في الفكر السياسي الإسلامي و هي التفريق بين مصدر الشرعية و مصدر التشريع ، فمصدر الشرعية للحاكم أو الحكام هو الناس و سبق أن أشرنا إلى مظاهر ذلك في اختيار الخلفاء الراشدين و ما قاله شيخ الإسلام حول شرعية اختيار عمر رضي الله عنه و ممن كانت ، و في صيغة حصر و نفي يؤكد الإمام علي رضي الله عنه " و لا تنعقد الإمامة إلا ببيعة المسلمين " و بطريقة تؤكد ما ذهب إليه ابن تيمية يورد أحد أبرز كتاب الأحكام السلطانية و هو أبو يعلى الحنبلي " الإمامة لا تنعقد للمعهود له بنفس العهد ، و إنما تنعقد بعهد المسلمين " الأحكام السلطانية ص/ 25   و يؤكد الإمام الباقلاني متحدثا عن الإمامة " لأنه ليس لها طريق إلا النص أو الاختيار و في فساد النص دليل على ثبوت الاختيار الذي نذهب إليه " التمهيد ص/ 467      و رضى الناس معتبر في حكامهم و ولاتهم ، و مواقف  عمر رضي الله عنه معينة على هذا المعنى فقد عزل سعد بن أبي وقاص لا لنقص فيه أو تقصير منه و إنما لأن أهل ولايته أبوه ، و كان لا يترك واليا فوق أربع  سنين فإن كان عدلا مله الناس و إن كان جائرا كفى من جوره – و في ذلك تأسيس لفكرة التداول المحرجة للبعض – و للأستاذ راشد الغنوشي كلام واضح في هذا السياق " تقول أهل التشيع على رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعلوا نظامه الشوري كسروية وراثية يتسلمها الأحفاد عن الأجداد كما يتسلمون المواريث حاشى أهل أطهر بيت أن ينسب إليهم دنس النظام الوراثي ، إنه النظام الوراثي مهما اختلفت العناوين ، و تقول أدعياء التسنن على نبيهم صلى الله عليه و سلم فأولوا إنابته لأبي بكر في الصلاة على أنه استخلاف و كأن المصطفى صلى الله عليه و سلم و هو الذي أوتي جوامع الكلم و هو نبي البيان و الملحمة عجز أو خشي أن يقولها صريحة " الحريات العامة ص/ 162  

أما مصدر التشريع فهو الوحي بأصوله و مقاصده و أحكامه و هنا لابد من التفريق بين الملزم و هو الكتاب و السنة الذي يلزم المسلمين في كل زمان و كل مكان و بين اجتهادات المسلمين و علمائهم التي تعين و تفيد و ترشد .

و الديمقراطية – لعلم من يعلم أو لا يعلم – تحدد الآلية التي يختار بها الناس كيف يشرعون و على أي أصل يعتمدون في ذلك التشريع ، ألا ترون معي هذا الجدل الواسع في كتابة الدساتير حول مرجعية التشريع ، هل هي الشريعة الإسلامية حصرا أو أساسا أم لا تذكر سكوتا عنها أو إلغاء لها ..... إلخ ألا يؤكد أن مصدرية التشريع تتقرر حسب التوجه العام للمجتمع و يمكن أن تكون الوحي أو الوضع ، و بالتالي فالديمقراطية تحسم في مصدر الشرعية و هنا تتفق مع أحكام الإسلام و قواعد الخلافة الراشدة و رحم الله الإمام محمد الغزالي حين لخص ذلك المعنى " لقد تعلم المسلمون من دينهم أن طغيان الفرد في أمة ما جريمة غليظة ، و أن الحاكم لا يستمد بقاءه المشروع ، و لا يستحق ذرة من التأييد إلا إذا كان معبرا عن روح الجماعة و مستقيما على أهدافها ، و من ثم فالأمة وحدها هي مصدر السلطة ، و النزول على إرادتها فريضة و الخروج على إرادتها تمرد ، و نصوص الدين و تجارب الحياة تتضافر كلها على توكيد ذلك " الإسلام و الإستبداد السياسي ص/ 62   كما تحدد آلية تفضي إلى اختيار مصدر التشريع ، و لا أخال مجتمعا مسلما يختلف في مصدرية الشريعة الإسلامية سواء عبر عنها بالمصدر الوحيد أو الرئيسي أو الأساسي أو بعبارة دين الدولة هو الإسلام أو الإسلام دينها ، و معروف أن السلطة التشريعية من أهم أركان الدولة ... و مع ذلك يحتاج مفهوم الشريعة إلى تصحيح يخرج به من دائرة الفهم الجزئي و طغيان الطابع العقابي و القانوني عليه فالشريعة عدل و حرية و إنصاف و استقامة ثم هي ردع و عقاب و عكس البناء خطأ و خلل .

3 – لا أريد فتح نقاش هنا حول موضوع الردة و الحد المقرر لها شرعا مع أن هذا النقاش مطلوب خصوصا أن دائرة الأقوال و الاجتهادات تتسع في شأنها ، صحيح أن المشهور و المعروف عند أغلب العلماء هو أن حد المرتد القتل اعتمادا على حديث البخاري " من بدل دينه فاقتلوه " ، مع أنه أختلف في الإستتابة و حدها الزمني هل هو ثلاثة أيام أو شهر بل روي عن الإمام النخعي الاستتابة أبدا ، و لماذا يفرق أغلب الأحناف بين المرتد و المرتدة مع أنه في جريمة الرأي لا وجه للتفريق ، و أثار عدد من المعاصرين التفريق بين الردة اللازمة و تلك المتعدية التي يصاحبها تمرد أو خروج مقرين العقوبة للثانية دون الأولى ، و لكني أود أن أشير إلى أن رفض الديمقراطية بحجة حد الردة لا يستقيم ، لأن التشريع الجنائي كغيره من التشريعات مبني على ما يقرره المجتمع انطلاقا من خصوصيته و ثقافته ، و أي تشريع يجاز بالقنوات المؤسسية        و الديمقراطية نافذ ديمقراطيا ، و عموما إذا كان العالم على استعداد  للاتفاق على قيم الحرية و رفض الإكراه و العنف فلا أخال الإسلام و الفاهمين من أهله إلا على استعداد لعقد من هذا النوع يعلي قيم الحرية و الإنصاف و قبول الآخر و سنجد في كتاب الله ما يؤسس و يشجع :

" لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها و الله سميع عليم "  البقرة 256 " و لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " يونس 99

" قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي و آتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها و أنتم لها كارهون " هود 28

" و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها و إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب و ساءت مرتفقا " الكهف 29 " و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن يضل من يشاء و يهدي من يشاء و لتسئلن عما كنتم تعملون "  النحل 93 " و لو شاء الله ما أشركوا و ما جعلناك عليهم حفيظا و ما أنت عليهم بوكيل "  الأنعام 107    

4 – غريب هوهذا الحرص على التفريق بين الناس عامتهم و خاصتهم ، جهلتهم  و علمائهم ، نسائهم و رجالهم ، صغارهم و كبارهم ، و أن الديمقراطية تجعل الجميع في نفس الدرجة يختارون و يحددون المصير ، بينما الإسلام يفرق      و يفصل ، و الحقيقة أنه لا الإسلام يفرق في الشأن العام ( اختيار الحاكم ) و لا الديمقراطية تسوي بين الناس أما أن الإسلام لا يفرق بين الجماهير في اختيار من يحكمهم فواضح من طبيعة البيعة التي تكون في المسجد و لا حاجب يمنع العامة أو غير العلماء أو ... و مشهور ما فعله سيدنا عبد الرحمن بن عوف أثناء استفتائه " فما ترك أحدا من المهاجرين و الأنصار و غيرهم من ضعفاء الناس و رعاعهم إلا و سألهم و استشارهم " و كان سؤاله " من ترى الخليفة بعد عمر " لأن الحاكم على الجميع و يتأثر به الجميع ، و كذلك في الديمقراطية هناك من يرشح فعلا و الناس تختار ، و النخبة و الأحزاب و أهل الرأي يمتازون عن المواطن العادي الذي لا يتعدى دوره غالبا أن يختار من بين خيارات ، و بالتالي فالقول بهذا التناقض غير مؤسس .

5 – أما موضوع الأكثرية و الأقلية و الاختلاف حول اعتماد البرهان و الدليل فموضوع يحتاج تحريرا فالبحث عن الدليل و قوة البرهان هو وسيلة الجميع و به نبحث عن أكثرية تدعمه فإن لم تحصل استمر الأداء و كثف الإقناع حتى تحصل ، فالدليل يتعلق بمادة الحوار و التداول ، أما الأكثرية و الأقلية فتتعلق بالحسم عند الاختيار و لا تقابل أو تناقض بين الاثنين ، وقد بالغ بعض الرافضين لمنطق الأكثرية في هذا الرفض حتى قال إسماعيل الكيلاني : " إن الإسلام لا يجعل كثرة العدد ميزانا للحق و الباطل " و نحن نعلم أن الأمر ليس كذلك فالأكثرية معتبرة علما و سياسة ، قال الإمام الرازي " الخبر الذي يكون رواته أكثر راجح على الذي لا يكون كذلك " المحصول 2/ 453  و أورد الإمام الباجي في إحكام الفصول أن المالكية في موضوع الوضوء من مس الذكر قالوا : " ما استدللنا به أولى لأنه رواه عن النبي صلى الله عليه و سلم جماعة منهم – و سموا – و خبركم لم يروه إلا واحد فكان خبرنا أولى " إحكام الفصول ص/ 737   

   و ذكر الباجي أمثلة أخرى ثم علق قائلا : " فثبت أن لكثرة العدد تأثيرا في الترجيح " نفس المرجع ص/ 738 و أورد الإمام ابن القيم أن البيهقي نقل عن الإمام الشافعي متحدثا عن الصحابة : " فإن اختلفوا بلا دلالة نظرنا إلى الأكثر " إعلام الموقعين 4 / 122  أما في المجال السياسي فنكتفي بما أورده ابن سعد في طبقاته " قال عمر لأصحاب الشورى : تشاوروا في أمركم ، فإن كان اثنان و اثنان فارجعوا في الشورى و إن كان أربعة و اثنان فخذوا صنف الأكثر " الطبقات الكبرى 3 / 61   من هنا فإن أكثرية المسلمين معتبرة و نحن نتحدث عن ديمقراطية في مجتمعات إسلامية ، و لا فرق في الحقوق في الشأن العام و إنما التفريق يكون في مجالات التخصص و ما تعلق بها من شورى و مشاورة .

إن الإسلام أجمل في شأن السياسة و أعطى أهدافا و موجهات و حدد مقاصد    و أحكاما ، و التطبيق التاريخي في عصر الراشدين ينظر إليه بهديه العام       و ممارساته الكلية لا بتفاصيل الإجراءات و الأشكال ، من هنا فإن هذه الديمقراطية التي اهتدت إلى آليات تنظم الاختلاف و تحصره في الوسائل الحضارية و السلمية نبتة طيبة و حكمة دون شك و صدق الأستاذ محمد ولد المختار الشنقيطي حين قال : " فالديمقراطية ليست موقفا عقديا و إنما هي صيغة إجرائية تسمح لنظام العقائد و القيم في المجتمع بالتعبير عن نفسه بحرية و بتجسيد ذاته في قوانين و ضوابط عملية " من مقال للكاتب

فإذا نجح دعاة الحل الإسلامي في تحقيق هذا الهدف من هذا الطريق فنعما هي و إن فشلوا فليس لهم إلا الانتظار و الدعوة حتى يتحقق ذلك بالإقناع و التراكم ، و لا سبيل لفرض الخيارات على الناس و إرغامهم على ما لا يريدون أيا كان    و أيا كانوا ، فالإكراه منع في الدين و الإيمان ، فلا يسوغ أن يكون في فهم الدين أو اجتهاد أهله أو اختيارات منتسبيه .   نقلا عن صحراء ميديا

 

رتل القرآن الكريم

إعلان

إعلان

فيديو

الجريدة

إعلان